راكان القداح

توافق اليوم الخميس الذكرى التاسعة والأربعون لاستشهاد المرحوم وصفي التل رئيس الوزراء الأسبق الذي اغتيل في القاهرة اثناء مشاركته في اجتماع مجلس الدفاع العربي المشترك ومنذ ذلك اليوم ما يزال الاردنيون يستذكرون ذلك البطل رغم مرور ما يقارب الخمسون عاما على استشهاده لعدة اعتبارات خبرها الاردنيون فيه ولم يروها في غيره من الرؤساء لذلك بقي محفورا في ذاكرة الجميع رمزا للاخلاص والحب والعطاء والعدل والمساواة وما زال الاردنيون الذين لم يعيشوا في عهده متعطشين لامثال ذلك النموذج او ما يشابهه .

وصفي التل الرئيس النادر بكل ما تحمله الكلمة من معنى عبر التاريخ الاردني الممتد عاش فقيرا ومات فقيرا فلم يمتلك رصيدا في بنك ولا شركة أو منزلاً فخماً فهو يشبهنا نحن معشر الشعب الاردني الكادح احب الاردنيون فأحبوه فكانوا هم رصيده الذي جهله الكثيرون .. لم يقصي بعيد ولم يقرب قريب كان هو الرقم الذي يقسم على الجميع دون باقي هذا هو وصفي الذي انجبته الأرض، فكان عملاً صالحاً، قائداً أحب الناس، فبادلته الحب بحب.

ولأن مدرسة وصفي التل خطت دروسها من وحي الانتماء الوطني، ولأنها مدرسة حب في زمن الصمت، ولأنها حالة عشق التراب في زمن تشييد القصور، فإن ذكراه تظل يقظة في الحس الوطني فهو يشبهنا كما اسلفنا سابقا .

عشرات المشاريع الحضارية، انجزت في حكومته كان ابرزها على سبيل الذكر لا الحصر تأسيس الجامعة الأردنية كأول صرح علمي في الأردن، تلاه مشروع سد الملك طلال ومن ثم إنشاء الخط الصحراوي والمبادرة في إنشاء شركة الفوسفات وشركة البوتاس مرورا بإنشاء التلفزيون الأردني ومحطة الأقمار الصناعية وإنشاء مستشفى الجامعة الأردنية وتطوير مستشفى البشير ومن ثم إنشاء جريدة الرأي .

وصفي التل قصة من العزم والإصرار ونوع فريد من الرجال الذين تولوا مناصب قيادية في هذا البلد من دون تجبر او ظلم .. وضع الاردن في قلبه فكان شديد الانتماء خالص الولاء عدل الى ابعد الحدود .. احب الاردنيون فأحبوه لدرجة ان يوم 28 – 11 من كل عام اصبج يوم حزن على امتداد الوجع والجغرافيا في اردننا الحبيب .

الالاف من الاردنيون اطلقوا على مواليدهم منذ ذلك اليوم اسم وصفي تيمنا بذلك البطل فيما زينت جدران منازل عشاقه بصورته البهية وهو يثني شماغه على كتفه، دون ألوان.. «بالابيض والاسود»، ونظرته تشي بفروسية الموقف ورجولة فارس لن يتكرر .

البعض ممن عاشروا وصفي او قرأوا بطولاته اصبح لديهم قناعة انه لم يتسلم الحكومة الاردنية فارس كوصفي منذ ذلك اليوم الاسود يوم طالته رصاصات الغدر والخيانة وانهت بصورة بشعة قصة رجل احبه الشعب كحبهم انفسهم واكثر .

واليوم نقول لمن تبوأ منصب رئيس للوزراء بعد وصفي ان الاردن يحتاج الان احد ابنائه .. من الطبقه التي تعرف قيمة ترابه .. ممن حمل المجرفه وحفر جور للزيتون وزرع فيها .. ممن رعى الغنم في طفولته وأكل من مرارها وزعترها .. ممن مشى على مدرسته بالاقدام .. وتعلم اصول لغته العربيه ودينه في صفوف فيها ابن الحراث وابن الباديه وابن المخيم .. ممن اكل من خبز قمحها .. ممن خدم في جيشها ولسعته شمسها وهو يخدم ارضها وشعبها .... أما انتم ايها الغرباء .. فلتأخذوا غنائمكم وانصرفوا فلم تصلوا الى قلوبنا ووجدانا ولن تكونوا كوصفي .

يحكى أن رجلاً جاء الى وصفي التل في يوم كان مخصصاً لاستقبال المواطنين في دار الرئاسة، جاء شاكياً مظلمة، حاملاً معه روح الفلاح وبساطته، وورقة تظهر اعتقال ابنه الذي تم بتهمة السب - اطالة اللسان - على وصفي التل، سمع التل القصة، غضب، وأخذ الورقة، وكتب على ظهرها ' يلعن أبو وصفي التل اللي بتسجنو الناس مشانه ' وطلب من الأب أن يسلمها إلى مدير المركز الأمني، تأثر الأب وشكر وصفي وغادر. كان انساناً يشعر بالمواطنين. ماذا يعني لو سب رئيس الوزراء او غيره ذات غضب وانفجار او عوز وجوع وقهر، وماذا تعني تهمة اطالة اللسان ؟!

فوصـفي التـل:الصوت الاردني الطالع من بيادر القمح كان يدرك عذاب الفلاحين ان هبت الرياح ويعرف وجع الحصادين في نهار مشمس فلم يأتي وبفمه ملعقة من ذهب بل جاء من تل اربد حاملا احلام الوطن نصب عينيه نذر نفسه لخدمة الاردن والاردنيين ... اما انتم فقد ورث بعضكم المناصب عن ابائه وبعضكم جاء وفي فمه ملعقة من ذهب لم يذق مرارة عيشنا ولم يعلم مآسي حياتنا نزل الى المنصب بالبرشوت فكانت ولادتهم لذلك المنصب رموا هموم الاردنيين خلف ظهورهم وعملوا لانفسهم وابنائهم فكان الاردنيون منهم براء .

وصفي التل الذي خبر الحياة قبل رئاسته للحكومة فكان فلاحا وخبيرا في مجال الزراعة كيف لا وقد كان ابرع من يحس هموم المزارعين الذين تربطهم علاقة حميمة بالارض وكان خبيرا في مجال المياه وقد انجز مشروع قناة الغور الشرقية وكان له ابرز الاثر في حفر الابار الارتوازية وفي الادارة كان ابرع حيث حارب الفشل والتسيب الاداري وفي مجال التعليم كان مبدع فقد جعل التعليم الزاميا للصغار وفرّع التعليم الى صناعي واكاديمي ليقود الاردن الى عهد مختلف من التقدم والازدهار وفي مجال الاعلام كان له باع عندما انار مساءات الاذاعة الاردنية .

واستذكر السكرتير الصحفي للرئيس الراحل وصفي التل ، احمد الزغيلات بعض المواقف التي كان شاهدا عليها في مسيرة التل منها : أنه في احد ايام الصيف جاء إليه في دار الرئاسة وفدٌ من اهالي مخيم الحسين شاكين انقطاع المياه عن منازلهم حيث بادر على الفور بالاتصال مع مدير الدفاع المدني طالبًا اليه قيادة تنك ماء بنفسه الى المخيم لتشجيع باقي زملائه على انجاز مهمة ايصال المياه الى بيوت المخيم عبر التنكات في مدى ثلاث ساعات.

وفي أحد الأيام استذكر حدوث أزمة تمثلت بعدم وجود مادة السكر في المحلات التجارية في جميع انحاء الوطن حيث جاء وزير الاقتصاد الوطني انذاك شاكياً له امتناع وكيل مادة السكر في الاردن عن توفير مادة السكر للمواطنين حيث بادر المرحوم وصفي الى الاتصال مع الوكيل وابلاغه انذارًا شفويًا بضرورة توفير السكر في مدى ثلاث ساعات حيث تم توفيرها في جميع المحال التجارية بصورة عاجلة.

ومن المواقف المشهودة لوصفي التل زياراته المتكررة لجميع المدن والقرى والمخيمات في المملكة حيث كان يعمد كل اسبوع الى زيارة مدينة وعدة قرى اردنية للاطلاع على اوضاع المواطنين والعمل على حل المشاكل التي تواجههم ميدانياً وبدون الرجوع الى ما يسمى لجان العمل.

يشار ان المرحوم التل من ابرز الشخصيات السياسية الاردنية حيث تولى منصب رئيس الوزراء في اعوام 1962 و 1965 و 1970، وعرف باخلاصه وولائه لقيادته الهاشمية وعشقه لوطنه وامته العربية ووحدتها.

وامتاز المرحوم بايمانه بالعمل العربي المشترك والتصدي للاخطار المواجهة للامة العربية ودعمه لكفاح الشعب الفلسطيني في سبيل تحرير ارضه ووطنه.

ولد المرحوم وصفي التل عام 1920 وهو ابن الشاعر الاردني المعروف مصطفى وهبي التل حيث تلقى دراسته الابتدائية في الاردن ثم انتقل الى الدراسة في الجامعة الاميركية ببيروت .

وتقلد الراحل الكبير العديد من الوظائف والمناصب الرسمية في عمان والقدس واريحا ولندن، وعمل دبلوماسيا في السفارات الاردنية في موسكو وطهران وبغداد.